الشتاء ربيع المؤمن
الأستاذ / نبيل المعاز
خالف
الله عز وجل بين الليل والنهار والشتاء والصيف وغيرها من الأضداد ليرينا
بعض آيات قدرته وحكمته وليهيّئ لنا فرصاً مختلفة للتفكر والعبادة (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذَّكَّر أو أرا د شُكوراً) (الفرقان 62)
وها نحن على أعتاب فصل الشتاء وهو موسم عظيم ينبغي أن نحسن استثماره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم;" الشتاء ربيع المؤمن قصُر نهارُه فصامَه وطال ليلُه فقامَه " (رواه أحمد والعسكري وحسّنه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال العجلوني: حسن لغيره) وقال صلى الله عليه وسلم "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة "(الطبراني وأحمد وحسّنه الألباني)
قال
ابن رجب " إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات و
يسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسّرة فيه كما
ترتع الكائنات في مرعى الربيع فتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في
الشتاء بما يسّر الله فيه من الطاعات فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام
نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد
فلا يحس فيه بمشقة الصيام، أما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس
حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن
وقد أخذت نفسه حظها من النوم فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك
ورده من القرآن فيكمل له مصلحة دينه و راحة بدنه
ولذلك
كان الصحابة والسلف الصالح يرحبون بالشتاء ويدعون لاغتنامه، يروى عن ابن
مسعود رضي الله عنه قال: مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل
للقيام ويقصر فيه النهار للصيام، وعن عبيد بن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء
قال: يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرءوا وقصر النهار لصيامكم
فصوموا، قيام ليل الشتاء يعدل( أي يساوي) صيام نهار الصيف، ولهذا بكى معاذ
عند موته وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر( أي فوات الصيام في الحرّ) وقيام
ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلقَ الذكر، وقال يحيى بن
معاذ: الليل طويل فلا تقصّرْه بمنامك والإسلام نقيّ فلا تُدنسّه بآثامك
و
قال معضد: لولا ثلاث: ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ولذاذة التهجد بكتاب
الله ما بليت أن أكون يعسوبا (أي ما تمنيت أن أكون شيئاً ولو ذَكَر النحل)
كما
خصّ النبي صلى الله عليه وسلم إتقان الوضوء في وقت البرد أو المرض أو
الشدة أو الحاجة للنوم بفضيلة خاصة وهي تكفير الخطايا ورفع الدرجات وجعلها
بمنزلة الجهاد والمرابطة على الثغور، فقال: "
ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ قالوا: بلى يا
رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره و كثرة الخطى إلى المساجد وانتظار
الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط" (رواه مسلم وغيره )
ومن خصال الإيمان التي وصى بها الفاروق عمر ابنه:" إسباغ الوضوء في اليوم الشاتي "
ومما
يجلب لك حرارة الإيمان في برد الشتاء أن تشعر بالفقراء والمحتاجين
والمشرّدين، وهو حق من حقوق الأخوة الإسلامية والجسد الواحد وعلامة من
علامات الإيمان.
ورضي
الله عن الفاروق عمر الذي كان إذا دخل الشتاء يرسل للمسلمين – وخصوصاً
الذين يسكنون المناطق الباردة – ويقول: إن الشتاء قد حضر فتأهّبوا له أهبته
من الصوف والخِفاف (جمع خُف) والجوارب، ورضي الله عن الزاهد الجليل بشر
الحافي حيث دخلوا عليه في يوم شديد البرد وقد خلع قميصه وهو ينتفض من البرد
فسألوه عن ذلك فقال: ذكرتُ إخواني من الفقراء وبرْدَهم وليس عندي ما
أواسيهم به فأحببت أن أواسيهم في بردهم.
ورضي
الله عن التابعي الجليل أويس القرني الذي كان إذا أصبح يقول: اللهم إني
أعتذر لك من كل كبد جائعة فإني ليس في بيتي من الطعام إلا ما في بطني وليس
في بيتي من الرياش (أي الثياب) إلا ما على ظهري.
فيا
من تحرص على غنائم الدنيا ومكاسبها اجعل الشتاء فرصة لغنائم الآخرة
والتجارة مع الله للفوز بجنته، وسعادة قلبك في الدنيا والآخرة بالأنس بالله
في قيام ليل الشتاء وصيام نهاره وقيام ليله ومكابدة الماء البارد والإحساس
بالفقراء والمحتاجين.