شعر الدكتور يوسف القرضاوي
ثار القريض بخاطري فدعـــــــوني *** أفضي لكم بفجائعي وشجونـــــــي
فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى *** والشعر عودي يوم عزف لحوني
كم قال صحبي أين غر قصائـــــدي *** تشجي القلوب بلحنها المحــــزون
وتخلّد الذكرى الأليمة للــــــــــورى *** تتلى على الأجيال بعد قــــــــرون
ما حيلتي والشعر فيض خواطـــــرٍ *** ما دمت أبغيه ولا يبغينــــــــــي ؟
واليوم عاودني الملاك فهزنــــــــي *** طرباً إلى الإنشاد والتلحيـــــــــــن
ألهمتها عصماء تنبع من دمــــــــي *** ويمدها قلبي وماء عيونـــــــــــــي
نونية والنون تحلو في فمــــــــــــي *** أبداً فكدت يقال لي ذو النــــــــــونِ
صورت فيها ما استطعت بريشتي *** وتركت للأيام ما يعيينــــــــــــي
أحداث عهد عصابة حكموا بنـــــي *** مصرَ بلا خلقٍ ولا قانــــــــــــون
أنست مظالمهم مظالم من خلــــــوا *** حتى ترحمنا على نيـــــــــــروبي
حسبوا الزمان أصمّ أعمى عنهــــم *** قد نوّموه بخطبةٍ وطنيـــــــــــــن
ويراعة التاريخ تسخر منهمـــــــو *** وتقوم بالتسجيل والتدويـــــــــــن
وكفى بربك للخليقة محصيـــــــــاً *** في لوحه وكتابه المكنـــــــــــــون
يا سائلي عن قصتي اسمع إنهـــا *** قصص من الأهوال ذات شجــون
أمسك بقلبك أن يطير مفزعــــــاً *** وتولّ عن دنياك حتى حيـــــــــــن
فالهول عاتٍ والحقائق مــــــــرةٌ *** تسمو على التصوير والتبييـــــــن
والخطب ليس بخطب مصر وحدها *** بل خطب هذا المشرق المسكين
في ليلة ليلاء من نوفمبــــــــــــــــرٍ *** فزعت من نومي لصوت رنيـن
فإذا كلاب الصيد تهجم بغتـــــــــــةً *** وتحوطني عن شمألٍ ويميـــــن
فتخطفوني من ذوي وأقبلـــــــــــوا *** فرحاً بصيدٍ للطغاة سميـــــــــن
وعزلت عن بصر الحياة وسمعها *** وقذفت في قفص العذاب الهـون
في ساحة الحربي حسبك باسمـــه *** من باعث للرعب قد طرحوني
ما كدت أدخل بابه حتــــــــى رأت *** عيناي ما لم تحتسبه ظنونـــي
في كل شبر للعذاب مناظـــــــــــرٌ *** يندى لها -والله - كل جبيــــن
فترى العساكر والكلاب معـــــــدة *** للنهش طوع القائد المفتــــــون
هذي تعض بنابها وزميلهـــــــــــا *** يعدو عليك بسوطه المسنـــون
ومضت علي دقائق وكأنهــــــــــا *** مما لقيت بهن بضع سنيـــــــن
يا ليت شعري ما دهانِ؟ وما جرى؟*** لا زلت حياً أم لقيت منوني؟
عجباً أسجن ذاك أم هو غابــــــةٌ *** برزت كواسرها جياع بطون ؟
أأرى بناء أم أرى شقي رحى *** جبارة للمؤمنين طحــــــــــــــونِ؟
واهاً أفي حلم أنا أم يقظــــــــةً *** أم تلك دار خيالة وفتــــــــــــون ؟
لا لا أشك هي الحقيقة حيــــة *** أأشك في ذاتي وعين يقينـــــــي ؟
هذي مقدمة الكتاب فكيف ما *** تحوي الفصول السود من مضمون ؟
هذا هو (الحربي) معقل ثورة *** تدعو إلى التحرير والنكويــــــــــن
فيه زبانية أعــــــــــدوا للأذى *** وتخصصوا في فنه الملعـــــــــون
متبلدون عقولهم بأكفــــــــــهم *** وأكفهم للشر ذات حنيـــــــــــــــــن
لا فرق بينهمو وبين سياطهم *** كل أداة في يدي مأفـــــــــــــــــون
يتلقفون القادمين كأنهـــــــــــم *** عثروا على كنزٍ لديك ثميــــــــــن
بالرجل بالكرباج باليد بالعصا *** وبكل أسلوبٍ خسيســـــسٍ دونِ
لا يقدرون مفكراً ولو أنــــــــه *** في عقل سقراط وأفلاطــــــــون
لا يعبئون بصالحٍ ولو أنـــــــه *** في زهد عيسى أو تقى هــارون
لا يرحمون الشيخ وهومحطـمٌ *** والظهر منه تراه كالعرجـــــون
لا يشفقون على المريض وطالما *** زادوا أذاه بقسوةٍ وجنـــــون
كم عالمٍ ذي هيبة وعمامــــــــــــةٍ *** وطئوا عمامته بكل مجـــون
لو لم تكن بيضاء ما عبثوا بهــــا*** لكنها هانت هوان الديـــــــــن
وكبيرِ قومٍ زينته لحيــــــــــــــــةٌ *** أغرتهمو بالسبِّ والتلعيـــــن
قالوا له :انتفها -بكل وقاحـــــــةٍ *** لم يعبأوا بسنينه الستيــــــــن
فإذا تقاعس أو أبى يا ويلـــــــــه *** مما يلاقي من أذىً وفتــــون
أترى أولئك ينتمـــــــــــون لآدمٍ *** أم هم ملاعينٌ بنو ملعــون ؟
تالله أين الآدمية منهمــــــــــــــو *** من مثل محمودٍ ومن ياسين
من جودة أو من دياب ومصطفى *** وحمادةٍ وعطية وأميــــــن
لا تحسبوهم مسلمين من اسمهــم *** لا دين فيهم غير سبّ الدين
لا دين يردع لا ضمير محاسـبٌ *** لا خوف شعبٍٍ لا حمى قانون
من ظن قانوناً هناك فإنمـــــــــــا *** قانوننا هو حمزة البسيـــــوني
جلاد ثورتهم وسوط عذابهـــــــم *** سموه زوراً قائداً لسجـــــــون
وجه عبوس قمطرير حاقـــــــــدُ *** مستكبر القسمات والعرنيــــن
في خده شجٌ ترى من خلفـــــــــه *** نفساً معقدةً وقلب لعيـــــــــــن
متعطشٍ للسوءِ في الدم والـــــــغٍ *** في الشرّ منقوعٍ به معجـــونِ
هذا هو الحربي معقل ثـــــــــورة *** تدعو إلى التطوير والتحسين
هو صورة صغرى استعيرت من لظى *** في ضيقها وعذابها الملعون
هو مصنع للهول كم أهدى لنــــا *** صوراً تذكرنا بيوم الديــــــن
هو فتنة في الدين لولا نفحـــــــةٌ *** من فيض إيمانٍ وبرد يقيــــن
قل للعواذل إن رميتم مصرنــــا *** بتخلف التصنيع والتعديــــــن
مصر الحديثة قد علت وتقدمـت *** في صنعة التعذيب والتقريــن
وتفننت - كي لا يمل معـــــذَّبٌ *** في العرض والإخراج والتلوين
أرأيت بالإنسان يُنفخ بطنـــــه *** حتى يُرى في هيئة البالــون ؟
أسمعت بالإنسان يُضغط رأسُه *** بالطوق حتى ينتهي لجنون ؟
أسمعت بالإنسان يُشعل جسمُه *** ناراً وقد صبغوه بالفزليـن ؟
أسمعت ما يلقى البرئ ويصطلي *** حتى يقول: أنا المسئُ خذوني
أسمعت بالآهات تخترق الدجى *** رباه عدلك .. إنهم قتلوني
إن كنت لم تسمع فسل عمّا جرى *** مثلي ولا ينبيك مثل سجين
واسأل ثرى الحربي أو جدرانه *** كم من كسير فيه أو مطعون
وسل السياط السود كم شربت دماً *** حتى غدت حمراً بلا تلوين
وسل (العروسة) قبحت من عاهرٍ *** كم من جريحٍ عندها وطعين
كم فتية زفوا إليها عنـــــوة *** سقطوا من التعذيب والتوهين
واسأل (زنازين) الجليد تجبك عن *** فن العذاب وصنعة التلقين
بالنار أو بالزمهرير فتلك في *** حينٍ وهذا الزمهرير بحين
يُلقى الفتنى فيها ليالي عارياً *** أو شبه عارٍ في شتا كانون
وهناك يملي الاعتراف كما اشتهوا *** أو لا فويل مخالفٍ وحرون
وسل (المقطم) وهو أعدل شاهدٍ *** كم من شهيدٍ في التلال دفين
قتلته طغمة مصر أبشع قتلةٍ *** لا بالرصاص ولا القنا المسنون
بل علقوه كالذبيحة هيئـــت *** للقطع والتمزيق بالسكيـــــــــن
وتهجدوا فيه ليالي كلهــــا *** جلدٌ وهم في الجلد أهل فنــــــون
فإذا السياط عجزن عن إنطاقه *** فالكي بالنيران خير ضمين
ومضت ليالٍ والعذاب مسجّرٌ *** لفتى بأيدي المجرمين رهين
لم يعبؤوا بجراحه وصديدهــــا *** لم يسمعوا لتأوهٍ وحنيـــــن
قالوا اعترف أو مت فأنت مخيّرٌ *** فأبى الفتى إلا اختيار منون
وجرى الدم الدفاق يسطر في الثرى *** يا إخوتي استشهدت فاحتسبوني
لا تحزنوا إني لربي ذاهــــــــــــــــبٌ *** أحيا حياة الحر لا المسجـــــــــــونِ
وامضوا على درب الهدى لا تيأسوا *** فاليأس أصل الضعف والتهوين
قل للذي جعل الكنانة كلهـــــــــــــــا *** سجناً وبات الشعب شر سجيـن
يا أيها المغرور في سلطانــــــــــــه *** أمن النضار خلقت أم من طين؟
يا من أسأت لكل من قد أحسنــــــوا *** لك دائنين فكنت شر مديــــــــن
يا ذئب غدرٍ نصبوه راعيـــــــــــــاً *** والذئب لم يك ساعة بأميــــــــن
يا من زرعت الشر لن تجني سوى *** شرٍ وحقدٍ في الصدور دفيــــــن
سيزول حكمك يا ظلوم كما انقضت *** دول أولات عساكر وحصـــون
ستهب عاصفةٌ تدك بنـــــــــــــــاءه *** دكاً وركن الطلم غير ركيـــــــن
ماذا كسبت وقد بذلت من القـــــوى *** والمال بالآلاف والمليــــــــون ؟
أرهقت أعصاب البلاد ومالهــــــــا *** ورجالها في الهدم لا التكويـــــن
وأدرت معركة تأجج نارهـــــــــــا *** مع غير (جون بولٍ) ولا كوهين
هل عدت إلا بالهزيمة مـــــــــــرّةٍ *** وربحت غير خسارة المغبـون ؟
وحفرت في كل القلوب معــــاوراً *** تهوي بها سفلاً إلى سجّيـــــــــن
وبنيت من أشلائنا وعظامنـــــــــا *** جسراً به نرقى لعلييـــــــــــــــن
وصنعت باليد نعش عهدك طائعاً *** ودققت إسفيناً إلى إسفيــــــــــــن
وظننت دعوتنا تموت بضربـــــةٍ *** خابت ظنونك فهي شر ظنـــون
بليت سياطك والعزائم لم تـــــزل *** منّا كحدّ الصارم المسنــــــــون
إنا لعمري إن صمتنا برهــــــــةً *** فالنار في البركان ذات كمـــون
تا لله ما الطغيان يهزم دعـــــوةً *** يوماً وفي التاريخ برُّ يمينــــي
ضع في يدي ّ القيد ألهب أضلعي *** بالسوط ضع عنقي على السكّين
لن تستطيع حصار فكري ساعــةً *** أو نزع إيماني ونور يقينـــــي
فالنور في قلبي وقلبي في يديْ *** ربّي .. وربّي ناصري ومعينـــي
سأعيش معتصماً بحبل عقيــدتي *** وأموت مبتسماً ليحيا دينـــي