شاركنا على الفيس بوك

الخميس، 5 أغسطس 2010

ملحمة النونية للكدتور القرضاوي

ملحمة النونية
شعر الدكتور يوسف القرضاوي


ثار القريض بخاطري فدعـــــــوني *** أفضي لكم بفجائعي وشجونـــــــي

فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى *** والشعر عودي يوم عزف لحوني

كم قال صحبي أين غر قصائـــــدي *** تشجي القلوب بلحنها المحــــزون

وتخلّد الذكرى الأليمة للــــــــــورى *** تتلى على الأجيال بعد قــــــــرون

ما حيلتي والشعر فيض خواطـــــرٍ *** ما دمت أبغيه ولا يبغينــــــــــي ؟

واليوم عاودني الملاك فهزنــــــــي *** طرباً إلى الإنشاد والتلحيـــــــــــن

ألهمتها عصماء تنبع من دمــــــــي *** ويمدها قلبي وماء عيونـــــــــــــي


نونية والنون تحلو في فمــــــــــــي *** أبداً فكدت يقال لي ذو النــــــــــونِ

صورت فيها ما استطعت بريشتي *** وتركت للأيام ما يعيينــــــــــــي

أحداث عهد عصابة حكموا بنـــــي *** مصرَ بلا خلقٍ ولا قانــــــــــــون

أنست مظالمهم مظالم من خلــــــوا *** حتى ترحمنا على نيـــــــــــروبي

حسبوا الزمان أصمّ أعمى عنهــــم *** قد نوّموه بخطبةٍ وطنيـــــــــــــن

ويراعة التاريخ تسخر منهمـــــــو *** وتقوم بالتسجيل والتدويـــــــــــن

وكفى بربك للخليقة محصيـــــــــاً *** في لوحه وكتابه المكنـــــــــــــون

يا سائلي عن قصتي اسمع إنهـــا *** قصص من الأهوال ذات شجــون

أمسك بقلبك أن يطير مفزعــــــاً *** وتولّ عن دنياك حتى حيـــــــــــن

فالهول عاتٍ والحقائق مــــــــرةٌ *** تسمو على التصوير والتبييـــــــن

والخطب ليس بخطب مصر وحدها *** بل خطب هذا المشرق المسكين


في ليلة ليلاء من نوفمبــــــــــــــــرٍ *** فزعت من نومي لصوت رنيـن

فإذا كلاب الصيد تهجم بغتـــــــــــةً *** وتحوطني عن شمألٍ ويميـــــن

فتخطفوني من ذوي وأقبلـــــــــــوا *** فرحاً بصيدٍ للطغاة سميـــــــــن

وعزلت عن بصر الحياة وسمعها *** وقذفت في قفص العذاب الهـون


في ساحة الحربي حسبك باسمـــه *** من باعث للرعب قد طرحوني

ما كدت أدخل بابه حتــــــــى رأت *** عيناي ما لم تحتسبه ظنونـــي

في كل شبر للعذاب مناظـــــــــــرٌ *** يندى لها -والله - كل جبيــــن

فترى العساكر والكلاب معـــــــدة *** للنهش طوع القائد المفتــــــون

هذي تعض بنابها وزميلهـــــــــــا *** يعدو عليك بسوطه المسنـــون

ومضت علي دقائق وكأنهــــــــــا *** مما لقيت بهن بضع سنيـــــــن

يا ليت شعري ما دهانِ؟ وما جرى؟*** لا زلت حياً أم لقيت منوني؟


عجباً أسجن ذاك أم هو غابــــــةٌ *** برزت كواسرها جياع بطون ؟

أأرى بناء أم أرى شقي رحى *** جبارة للمؤمنين طحــــــــــــــونِ؟

واهاً أفي حلم أنا أم يقظــــــــةً *** أم تلك دار خيالة وفتــــــــــــون ؟

لا لا أشك هي الحقيقة حيــــة *** أأشك في ذاتي وعين يقينـــــــي ؟

هذي مقدمة الكتاب فكيف ما *** تحوي الفصول السود من مضمون ؟


هذا هو (الحربي) معقل ثورة *** تدعو إلى التحرير والنكويــــــــــن

فيه زبانية أعــــــــــدوا للأذى *** وتخصصوا في فنه الملعـــــــــون

متبلدون عقولهم بأكفــــــــــهم *** وأكفهم للشر ذات حنيـــــــــــــــــن

لا فرق بينهمو وبين سياطهم *** كل أداة في يدي مأفـــــــــــــــــون

يتلقفون القادمين كأنهـــــــــــم *** عثروا على كنزٍ لديك ثميــــــــــن

بالرجل بالكرباج باليد بالعصا *** وبكل أسلوبٍ خسيســـــسٍ دونِ

لا يقدرون مفكراً ولو أنــــــــه *** في عقل سقراط وأفلاطــــــــون

لا يعبئون بصالحٍ ولو أنـــــــه *** في زهد عيسى أو تقى هــارون

لا يرحمون الشيخ وهومحطـمٌ *** والظهر منه تراه كالعرجـــــون

لا يشفقون على المريض وطالما *** زادوا أذاه بقسوةٍ وجنـــــون

كم عالمٍ ذي هيبة وعمامــــــــــــةٍ *** وطئوا عمامته بكل مجـــون

لو لم تكن بيضاء ما عبثوا بهــــا*** لكنها هانت هوان الديـــــــــن

وكبيرِ قومٍ زينته لحيــــــــــــــــةٌ *** أغرتهمو بالسبِّ والتلعيـــــن

قالوا له :انتفها -بكل وقاحـــــــةٍ *** لم يعبأوا بسنينه الستيــــــــن

فإذا تقاعس أو أبى يا ويلـــــــــه *** مما يلاقي من أذىً وفتــــون


أترى أولئك ينتمـــــــــــون لآدمٍ *** أم هم ملاعينٌ بنو ملعــون ؟

تالله أين الآدمية منهمــــــــــــــو *** من مثل محمودٍ ومن ياسين

من جودة أو من دياب ومصطفى *** وحمادةٍ وعطية وأميــــــن

لا تحسبوهم مسلمين من اسمهــم *** لا دين فيهم غير سبّ الدين

لا دين يردع لا ضمير محاسـبٌ *** لا خوف شعبٍٍ لا حمى قانون

من ظن قانوناً هناك فإنمـــــــــــا *** قانوننا هو حمزة البسيـــــوني

جلاد ثورتهم وسوط عذابهـــــــم *** سموه زوراً قائداً لسجـــــــون

وجه عبوس قمطرير حاقـــــــــدُ *** مستكبر القسمات والعرنيــــن

في خده شجٌ ترى من خلفـــــــــه *** نفساً معقدةً وقلب لعيـــــــــــن

متعطشٍ للسوءِ في الدم والـــــــغٍ *** في الشرّ منقوعٍ به معجـــونِ

هذا هو الحربي معقل ثـــــــــورة *** تدعو إلى التطوير والتحسين

هو صورة صغرى استعيرت من لظى *** في ضيقها وعذابها الملعون

هو مصنع للهول كم أهدى لنــــا *** صوراً تذكرنا بيوم الديــــــن

هو فتنة في الدين لولا نفحـــــــةٌ *** من فيض إيمانٍ وبرد يقيــــن

قل للعواذل إن رميتم مصرنــــا *** بتخلف التصنيع والتعديــــــن

مصر الحديثة قد علت وتقدمـت *** في صنعة التعذيب والتقريــن

وتفننت - كي لا يمل معـــــذَّبٌ *** في العرض والإخراج والتلوين

أرأيت بالإنسان يُنفخ بطنـــــه *** حتى يُرى في هيئة البالــون ؟

أسمعت بالإنسان يُضغط رأسُه *** بالطوق حتى ينتهي لجنون ؟

أسمعت بالإنسان يُشعل جسمُه *** ناراً وقد صبغوه بالفزليـن ؟

أسمعت ما يلقى البرئ ويصطلي *** حتى يقول: أنا المسئُ خذوني

أسمعت بالآهات تخترق الدجى *** رباه عدلك .. إنهم قتلوني

إن كنت لم تسمع فسل عمّا جرى *** مثلي ولا ينبيك مثل سجين


واسأل ثرى الحربي أو جدرانه *** كم من كسير فيه أو مطعون

وسل السياط السود كم شربت دماً *** حتى غدت حمراً بلا تلوين

وسل (العروسة) قبحت من عاهرٍ *** كم من جريحٍ عندها وطعين

كم فتية زفوا إليها عنـــــوة *** سقطوا من التعذيب والتوهين


واسأل (زنازين) الجليد تجبك عن *** فن العذاب وصنعة التلقين

بالنار أو بالزمهرير فتلك في *** حينٍ وهذا الزمهرير بحين

يُلقى الفتنى فيها ليالي عارياً *** أو شبه عارٍ في شتا كانون

وهناك يملي الاعتراف كما اشتهوا *** أو لا فويل مخالفٍ وحرون


وسل (المقطم) وهو أعدل شاهدٍ *** كم من شهيدٍ في التلال دفين

قتلته طغمة مصر أبشع قتلةٍ *** لا بالرصاص ولا القنا المسنون

بل علقوه كالذبيحة هيئـــت *** للقطع والتمزيق بالسكيـــــــــن

وتهجدوا فيه ليالي كلهــــا *** جلدٌ وهم في الجلد أهل فنــــــون

فإذا السياط عجزن عن إنطاقه *** فالكي بالنيران خير ضمين

ومضت ليالٍ والعذاب مسجّرٌ *** لفتى بأيدي المجرمين رهين

لم يعبؤوا بجراحه وصديدهــــا *** لم يسمعوا لتأوهٍ وحنيـــــن

قالوا اعترف أو مت فأنت مخيّرٌ *** فأبى الفتى إلا اختيار منون

وجرى الدم الدفاق يسطر في الثرى *** يا إخوتي استشهدت فاحتسبوني

لا تحزنوا إني لربي ذاهــــــــــــــــبٌ *** أحيا حياة الحر لا المسجـــــــــــونِ

وامضوا على درب الهدى لا تيأسوا *** فاليأس أصل الضعف والتهوين

قل للذي جعل الكنانة كلهـــــــــــــــا *** سجناً وبات الشعب شر سجيـن

يا أيها المغرور في سلطانــــــــــــه *** أمن النضار خلقت أم من طين؟

يا من أسأت لكل من قد أحسنــــــوا *** لك دائنين فكنت شر مديــــــــن

يا ذئب غدرٍ نصبوه راعيـــــــــــــاً *** والذئب لم يك ساعة بأميــــــــن

يا من زرعت الشر لن تجني سوى *** شرٍ وحقدٍ في الصدور دفيــــــن

سيزول حكمك يا ظلوم كما انقضت *** دول أولات عساكر وحصـــون

ستهب عاصفةٌ تدك بنـــــــــــــــاءه *** دكاً وركن الطلم غير ركيـــــــن

ماذا كسبت وقد بذلت من القـــــوى *** والمال بالآلاف والمليــــــــون ؟

أرهقت أعصاب البلاد ومالهــــــــا *** ورجالها في الهدم لا التكويـــــن

وأدرت معركة تأجج نارهـــــــــــا *** مع غير (جون بولٍ) ولا كوهين

هل عدت إلا بالهزيمة مـــــــــــرّةٍ *** وربحت غير خسارة المغبـون ؟

وحفرت في كل القلوب معــــاوراً *** تهوي بها سفلاً إلى سجّيـــــــــن

وبنيت من أشلائنا وعظامنـــــــــا *** جسراً به نرقى لعلييـــــــــــــــن

وصنعت باليد نعش عهدك طائعاً *** ودققت إسفيناً إلى إسفيــــــــــــن

وظننت دعوتنا تموت بضربـــــةٍ *** خابت ظنونك فهي شر ظنـــون

بليت سياطك والعزائم لم تـــــزل *** منّا كحدّ الصارم المسنــــــــون

إنا لعمري إن صمتنا برهــــــــةً *** فالنار في البركان ذات كمـــون

تا لله ما الطغيان يهزم دعـــــوةً *** يوماً وفي التاريخ برُّ يمينــــي

ضع في يدي ّ القيد ألهب أضلعي *** بالسوط ضع عنقي على السكّين

لن تستطيع حصار فكري ساعــةً *** أو نزع إيماني ونور يقينـــــي

فالنور في قلبي وقلبي في يديْ *** ربّي .. وربّي ناصري ومعينـــي

سأعيش معتصماً بحبل عقيــدتي *** وأموت مبتسماً ليحيا دينـــي