شاركنا على الفيس بوك

الأربعاء، 7 مارس 2012

حاجتنا للقرآن الكريم

حاجتنا للقرآن الكريم
الشيخ فريد الأنصاري


من أنت؟

أنا، وأنت!.. ذلك هو السؤال الذي قلما ننتبه إليه! والعادة أن الإنسان يحب أن يعرف كل شيء مما يدور حوله في هذه الحياة، فيسأل عن هذه وتلك، إلا سؤالا واحدا لا يخطر بباله إلا نادرا! هو: من أنا؟ نعم، فهل سألت يوما نفسك عن نفسك: من أنت؟

ولعل أهم الأسباب في إبعاد ذلك وإهماله يرجع في الغالب إلى معطى وهمي، إذ نظن أننا نعرف أنفسنا فلا حاجة إلى السؤال! تغرنا إجابات الانتماء إلى الأنساب والألقاب، وتنحرف بنا عن طلب معرفة النفس الكامنة بين أضلعنا، التي هي حقيقة (من أنا؟) و(من أنت؟) ويتم إجهاض السؤال في عالم الخواطر؛ وبذلك يبقى الإنسان أجهل الخلق بنفسه، فليس دون الأرواح إلا الأشباح!

ولو أنك سألت نفسك بعقلك المجرد: من أنتِ؟ سؤالا عن حقيقتها الوجودية الكاملة؛ لما ظفرت بجواب يشفي الغليل! وإذن؛ تدخل في بحر من الحيرة الوجودية!

أنا وأنتَ، تلك قصة الإنسان منذ بدء الخلق إلى يوم الناس هذا.. إلى آخر مشهد من فصول الحياة في رحلة هذه الأرض! وهي قصة مثيرة ومريرة!

ولذلك أساسا كانت رسالةُ القرآن هي رسالة الله إلى الإنسان؛ لتعريفه بنفسه عسى أن يبدأ السير في طريق المعرفة بالله؛ إذْ معرفة النفس هي أول مدارج التعرف إلى الله. وليس صدفة أن يكون أول ما نزل من القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)(العلق:1-2). ثم تواتر التعريف بالإنسان – بَعْدُ - في القرآن، في غير ما آية وسورة، من مثل قوله سبحانه: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(الإنسان:1-3) وكذلك آيات السيماء الوجودية للإنسان، الضاربة في عمق الغيب، من قوله تعالى: (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ)(السجدة:6-9).

ومن هنا أساسا كانت قضية الشيطان - بما هو عدو للإنسان - هي إضلاله عن معالم الطريق، في سيره إلى ربه! بدءا بإتلاف العلامات والخصائص المعرفة بنفسه، والكاشفة له عن حقيقة هويته، وطبيعة وجوده! حتى إذا انقطعت السبل بينه وبين ربه؛ ألَّهَ نفسَه، وتمرد على خالقه!

ولم يزل الإنسان في قصة الحياة يضطرب بين تمرد وخضوع، في صراع أبدي بين الحق والباطل إلى الآن! فكانت لقصته تلك عبر التاريخ مشاهدُ وفصول! وكانت له مع الشيطان ومعسكره معاركُ ضارية، فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وإقبالٌ وإدبار!

قال عز وجل حكايةً عن إبليس: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً. قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(الإسراء:62-65).

من أجل ذلك كان للإنسان في كل زمان قصةٌ مع القرآن، وقصةٌ مع الشيطان!

فيا حسرة عليك أيها الإنسان! هذا عمرك الفاني يتناثر كل يوم، لحظةً فلحظة، كأوراق الخريف المتهاوية على الثرى تَتْرَى! اُرْقُبْ غروبَ الشمس كل يوم؛ لتدرك كيف أن الأرض تجري بك بسرعة هائلة؛ لتلقيك عن كاهلها بقوة عند محطتك الأخيرة! فإذا بك بعد حياة صاخبة جزءٌ حقير من ترابها وقمامتها! وتمضي الأرض في ركضها لا تبالي.. تمضي جادةً غير لاهية – كما أُمِرَتْ - إلى موعدها الأخير! فكيف تحل لغز الحياة والموت؟ وكيف تفسر طلسم الوجود الذي أنت جزء منه ولكنك تجهله؟ كيف وها قد ضاعت الكتب كلها؟ ولم يبق بين يديك سوى هذا (الكتاب)!

فأين تجد الهداية إذن يا ابن آدم، وأنى تجدها؛ إن لم تجدها في القرآن؟ وأين تدرك السكينة إن لم تدركها في آياته المنصوبة - لكل نفس في نفسها – علامات ومبشرات في الطريق إلى الله؟ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)(الإسراء:9 - 10).

نَعَم، بقي القرآن العظيم إعجازا أبديا، يحي الموتى، ويبرئ المرضى، ويقصم قلوب الجبابرة، ويرفع هامات المستضعفين في العالمين، ويحول مجرى التاريخ! وكل ذلك كان - عندما كان - بالقرآن، وبالقرآن فقط! وهو به يكون الآن، وبه يكون كلما حَلَّ الإبَّانُ من موعد التاريخ، ودورة الزمان! على يد أي كان من الناس! بشرط أن يأخذه برسالته، ويتلوه حق تلاوته! وتلك هي القضية!

ماذا حدث لهؤلاء المسلمين؟ أين عقولهم؟ أين قلوبهم؟ أليس ذلك هو القرآن؟ أليس ذلك هو كلام الله؟ أليس الله رب العالمين؟ أليس الخلق - كل الخلق - عبيده طوعا أو كرها؟ ففيم التردد والاضطراب إذن؟ لماذا لا ينطلق المسلم المعاصر يشق الظلمات بنور الوحي الساطع، الخارق للأنفس والآفاق؟

ألم يقل الله في القرآن عن القرآن، بالنص الواضح القاطع: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ! وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)؟ (الحشر:21). فهل هذه خاصية ماتت بموت محمد رسول الله؟ أم أن معجزة القرآن باقية بكل خصائصها إلى يوم القيامة؟ ورغم أن الجواب هو من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة لكل مسلم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي البشرى إلى هذه الأمة، نورا من الأمل الساطع الممتد إلى الأبد! فقد دخل عليه الصلاة والسلام المسجدَ يوما على أصحابه ثم قال:‌ (أبشروا.. أبشروا..! أليس تشهدون ألا إله إلا الله وأني رسول الله؟‌ قالوا ‌:‌ بلى، قال ‌:‌ فإن هذا القرآن سَبَبٌ، طرفُه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به! فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً!)( ومثله أيضا قولهصلى الله عليه وسلم بصيغة أخرى: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض) تلك حقيقة القرآن الخالدة، ولكن أين من يمد يده؟

ألم يأن للمسلمين – وأهل الشأن الدعوي منهم خاصة – أن يلتفتوا إلى هذا القرآن؟ عجبا! ما الذي أصم هذا الإنسان عن سماع كلمات الرحمن؟ وما الذي أعماه عن مشاهدة جماله المتجلي عبر هذه الآيات العلامات؟ أليس الله – جل ثناؤه – هو خالق هذا الكون الممتد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة؟ أليس هو – جل وعلا – رب كل شيء ومليكه؟ الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟ أوَليس الله هو مالك الملك والملكوت؟ ذو العزة والجبروت؟ لا شيء يكون إلا بأمره! ولا شيء يكون إلا بعلمه وإذنه! أوَليس الخلق كلهم أجمعون مقهورين تحت إرادته وسلطانه؟ فمن ذا قدير على إيقاف دوران الأرض؟ ومن ذا قدير على تغيير نُظُم الأفلاك في السماء؟ من بعد ما سوَّاها الله على قدر موزون، (فَقَالَ لَهَا وَلِلاَرْضِ إيتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً قَالَتَا أتَيْنَا طَائِعِينَ)؟(فصلت:10) ومن ذا مِنَ الشيوخ المعمَّرين قديرٌ على دفع الهرم إذا دب إلى جسده؟ أو منع الوَهَنِ أن ينخر عظمه، ويجعد جلده؟ ويحاول الإنسان أن يصارع الهرم والموت! ولكن هيهات! هيهات!

كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَهَا *** فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ!

الموت والفناء هو اليقينية الكونية المشتركة بين جمع الخلق، كافرهم ومؤمنهم!

يولد الإنسان يوما ما.. وبمجرد التقاط نفَسِه الأول من هواء الدنيا يبدأ عمره في عَدٍّ عَكْسِي نحو موعد الرحيل..! فكان البدءُ هو آية الختام! هكذا يولد الإنسان وبعد ومضة من زمن الأرض تكون وفاته! (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِكْرَامِ)(الرحمن:24-25).

ذلك هو الله رب العالمين، يرسل رسالته إلى هذا الإنسان العبد، فيكلمه وحيا بهذا القرآن! ويأبى أكثرُ الناس إلا تمردا وكفورا! فواأسفاه على هذا الإنسان! ويا عجبا من أمر هؤلاء المسلمين! كأن الكتاب لا يعنيهم، وكأن الرسول لم يكن فيهم! (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ! مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون!)(يس:30)

إن هذا القرآن هو الروح الذي نفخه الله في عرب الجاهلية؛ فأخرج منهم خير أمة أخرجت للناس! وانبعثوا بروح القرآن من رماد الموت الحضاري؛ طيوراً حية تحلق في الآفاق، وخرجوا من ظلمات الجهل ومتاهات العمى أدِلاَّءَ على الله، يُبْصِرون بنور الله ويُبَصِّرون العالم الضال حقائق الحياة! ذلك هو سر القرآن، الروح الرباني العظيم، لا يزال هو هو! روحا ينفخ الحياة في الموتى من النفوس والمجتمعات؛ فتحيا من جديد! وتلك حقيقة من أضخم حقائق القرآن المجيد! قال جل ثناؤه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ)(الشورى:52-53).

من أنت؟ تلك قصة النبأ العظيم! نبأ الوجود الضخم الرهيب، من البدء إلى المصير! النبأ الذي جاءت به النُّذُرُ من الآيات: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا: يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ!)(الأنبياء:97). وقريبا جدا – واحسرتاه! – تنفجر به الأرض والسماوات! (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ! كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)(الأنبياء:104).

ذلكم هو النذير القرآني الرهيب! ولقد أعذر من أنذر! وما بقي لمن بلغه النبأ العظيم من محيص؛ إلا أن يتحمل مسؤوليته الوجودية، ويتخذ القرار، قراراً واحدا من بين احتمالين اثنين، لا ثالث لهما: النور أو العَمَى! وما أنزل الله القرآن إذْ أنزله إلا لهذا! ولقد صَرَّفَه على مدى ثلاث وعشرين سنة؛ آيةً آيةً، كل آية في ذاتها هي بصيرة للمستبصرين، الذين شَاقَهُم نورُ الحق فبحثوا عنه رَغَباً ورَهَباً؛ عسى أن يكونوا من المهتدين.

وبقي القرآن بهذا التحدي الاستبصاري يخاطب العُمْيَ من كل جيل بشري! قال الحقُّ جل وعلا: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)(الأنعام:104).

من أجل ذلك؛ نرجع آئبين إلى رسالة الله، نقرؤها من جديد، نستغفره تعالى على ما فرطنا وقصرنا! قدوتنا في هذه السبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته الزكية، التي لم تكن في كل تجلياتها النبوية – قولا وفعلا وتقريرا - إلا تفسيرا للقرآن العظيم! وكفى بكلمة عائشة أم المؤمنين، في وصفه – عليه الصلاة والسلام – لما سئلت عن خُلُقِه صلى الله عليه وسلم؛ فقالت بعبارتها الجامعة المانعة: (كان خُلُقُه القرآن!)( ولقد ضل وخاب من عزل السنة عن الكتاب!

نرجع إذن إلى القرآن، نحمل رسالته إن شاء الله – كماأمر الله – نخوض بها تحديات العصر، يحدونا اليقين التام بأن لا إصلاح إلا بالصلاح!وأن لا ربانية إلا بالجمع بينهما! وأن لا إمكان لكل ذلك – صلاحاً وإصلاحاً وربانيةً - إلا بالقرآن المجيد! وهو قول الحق - جل ثناؤها – في آية عجيبة،آية ذات علامات – لمن يقرأ العلامات – ولكل علامة هدايات. قال تعالى ذِكْرُه (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(الأعراف:170) التَّمْسِيكُ بالكتاب، وإقامُ الصلاة: أمران كفيلان برفع المسلم إلى منـزلة المصلحين! هكذا: (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ). وإن تلك لآية! ومثلها قوله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آلعمران:79). وقد قُرِئَتْ: (تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) و(تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ)؛ للجمع بين وظيفتي التَّعَلُّم والتعليم، والصلاح والإصلاح، إذْ بذلك يكون التدارس لآيات القرآن العظيم، بماهي علامات دالةعلى الله، وراسمة لطريقالتعرف إليه جل وعلا، في الأنفس والآفاق. وتلك هي السبيل الأساس للربانية، كما هو واضح من دلالة الحصر المستفادة من الاستدراك في الآية: (ولكن كونوا ربانيين).


الثلاثاء، 6 مارس 2012

إيقاظ الإيمان ... كيف؟

إيقاظ الإيمان ... كيف؟
الدكتور / مجدي الهلالي


يتردد كثيرًا على الساحة الإسلامية في هذه الآونة مصطلح "إيقاظ الإيمان"، وضرورة الاهتمام به وإعطائه الأولوية في الأهداف التربوية التي تُعنى بتكوين الشخصية المسلمة، وهذا أمرٌ طيبٌ جديرٌ بالتشجيع والمساندة من الجميع، وكيف لا ومشكلة الأمة بالأساس مشكلةٌ إيمانيةٌ ولن ينصلح حالها إلا بالإيمان (وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:139] وسنظل ندور في حلقةٍ مفرغةٍ لا نخرج منها إن لم نبدأ بالإيمان؛ فنجدِّده ونحييه في قلوبنا.

ولكن لكي يُؤتي هذا الاهتمامُ بإيقاظ الإيمان ثمارَه المرجوَّة؛ فلابد من الاتفاق على المقصود بهذه اليقظة أولا؛ فليست هي مجرد أداء الصلوات بالمسجد، وصلاة النوافل، والإكثار من ذكر الله؛ فكم من شخص يفعل ذلك وفي نفس الوقت تجده شديدَ الحرص على المال، يحسب كل شيء، ويُفكِّر في حقِّه أولاً ويتنصل من حقوق الآخرين، شديدَ التركيز على الدنيا؛ إذا ذهب لشراء شيءٍ تجده ينتقل بين الحوانيت للبحث عن الأرخص سِعرًا؛ ولا يملُّ من المساومة لتخفيض السعر قدر المستطاع، وإذا ما ساعد غيره فبحسابٍ شديدٍ، يُصاب بالهلع إذا ما أُصيب مالُه بخسارة ولو طفيفة، أو ضاعت من يديه صفقة رابحة!.

وليس هذا خاصًّا بالأغنياء فقط؛ فالفقراء ومتوسِّطو الحال كذلك.. نجد بعض التناقض بين عباداتهم الظاهرة وسلوكياتهم ومعاملاتهم، وبخاصةٍ فيما يخص المال؛ فالحرص على الدنيا، والحزن على فوات شيءٍ يسيرٍ منها، وأحلام اليقظة والأماني الدنيوية العريضة.. يسيطر على مخيّلتهم.

لا شك أن المحافظة على الصلوات في أول وقتها بالمسجد من مظاهر الإيمان، ولكن عندما لا تتواكب تلك المظاهر مع هوانِ الدنيا في عين صاحبها، وضآلة حجمها في قلبه، ومن ثَمَّ تعامله معها من منطلق هذه النظرة؛ فإن ذلك يعدُّ بمثابة مؤشرٍ مهمٍّ لعدم تمكُّن الإيمان من القلب، وعدم وصوله إلى مرحلة اليقظة والانتباه.

فعندما يستيقظ الإيمان، وتشتعل جذوته في القلب؛ فإن هذا من شأنه أن يجعل صاحب هذا القلب يدرك حقيقة الدنيا، فتصغُر في عينيه، وتهون عليه، ويرى المال على حقيقته؛ بأنه "مال الله"، وأنه مستخلفٌ فيه من قِبَلِه سبحانه وتعالى، وأن الذي يُرضي صاحبه هو إنفاقه في أوجه الخير ما وسعه ذلك.

إن المال هو أهم رمز للدنيا، وعندما نرى من شخصٍ ما تلهُّفًا على المال، وحرصًا عليه، وخوفًا على فواته، وضِيقًا من نقصانه.. فإن هذا يُعطي دلالةً قويةً على أن الدنيا في قلبه تحتلُّ مساحة كبيرةً، وأن إيمانه وإن كان موجودًا إلا أنه إيمان مُخدَّر نائم.

فإن قلت: ولكن هناك بعض الناس ينفقون في سبيل الله كثيرًا، ومع ذلك فهم مقصِّرون في الطاعات، ويتجرَّؤون على فعل بعض المعاصي!!.

أجل.. هذا موجود بالفعل عند البعض، ولعل إنفاقهم في سبيل الله، في هذه الحالة، مردّه إلى تربيتهم الأولى التي عوَّدتهم على السخاء والجود، ولكن لكي يكون هذا البذل معبِّرًا عن "يقظةِ الإيمان" في قلوبهم؛ لا بد أن يواكبه ظهور علامات أخرى؛ أجملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: فعن عبد الله بن مسعود قال: قلنا: يا رسول الله، قوله تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (الزمر: من الآية 22)، كيف انشرح الصدر؟ قال:"إذا دخل النورُ القلبَ انشرح وانفتح"، قلنا: يا رسول الله، وما علامة ذلك؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله" (أخرجه الحاكم والبيهقي)

فالعلامة الأولى كما في الحديث هي: الإنابة إلى دار الخلود، ومن مظاهرها: المسارعة إلى فعل الخير بأنواعه، والورع والحساسية الشديدة تجاه الحرام وكل ما فيه شبهة، وتقديم مصالح الدين على جميع مصالح الدنيا عند تعارضهما.

أما مظاهر العلامة الثانية ليقظة القلب "التجافي عن دار الغرور"؛ فهي عدم التلهُّف على تحصيل الدنيا، وعدم الحزن على فواتها أو نقصانها، وقلة التفكير فيها، وعدم حسد الآخرين عليها، أو التطلُّع إلى ما عند أهل الثراء فيها؛ إلا رغبةً في الإنفاق في سبيل الله.

ومن مظاهر الاستعداد للموت قبل نزوله: المسارعة إلى التوبة الصادقة، ودوام الإنابة إلى الله، والتحلُّل من المظالم، وردُّ الحقوق والأمانات إلى أهلها.

هذه العلامات ما هي إلا انعكاس ليقظة الإيمان وانشراح الصدر به، وليس العكس؛ بمعنى أنه لا يمكن القفز إلى هذه المظاهر ومحاولة التعوُّد عليها بغية اكتسابها؛ فلكي ينصلح الحال في العبادات والسلوكيات والاهتمامات والمعاملات؛ لا بد من البدء من النقطة الصحيحة، ألا وهي: العمل على إيقاظ الإيمان في القلب،وليس العكس.

فالاهتمام بأداء العبادات وإصلاح السلوكيات دون الاهتمام بيقظة القلب من شأنه، وإن نجح من الناحية الشكلية، أن يُنتجَ شخصًا مشوَّهًا ذا شخصيتين؛ تجده في المسجد يصلي، ثم في متجره يعامل الناس بغلظة، ولا يحافظ على وعده ومواعيده، وقد يُسيء معاملة أهله وأرحامه، ويتهافت على المال تهافُتَ الفَرَاش على النار.

وفي المقابل: عندما نبدأ بالإيمان فنوقظه؛ فإن شجرته تنمو وتزدهر وتثمر ثمارًا يانعةً في كل وقت وكل اتجاه(كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)[إبراهيم]

ويكفي في تأكيد هذا المعنى قولُه تعالى في هذه الآية الجامعة: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177]

وقد بدأ الإمام ابن القيم كتابه الرائع مدارج السالكين بمنزلة "اليقظة"، وقال فيها: "فأول منازل العبودية: اليقظة، وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، والله.. ما أنفعَ هذه الروعة!! وما أعظمَ قدرها وخطرها!! وما أشدَّ إعانتها على السلوك!! فمن أحسَّ بها فقد أحسَّ، والله، بالفلاح، وإلا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه شمَّر للهب همَّته للسفر إلى منازله الأولى، واعلم أن العبد قبل ذلك في نوم الغفلة، قلبه نائم، وطرفه يقظان؛ فأول مراتب هذا النائم: اليقظة والانتباه من النوم".

من هنا ندرك مغزى قول الإمام الشهيد حسن البنا، وهو يتحدث إلى الناس فيقول: "قبل أن نتحدث إليكم في هذه الدعوة عن الصلاة والصوم، وعن القضاء والحكم، وعن العادات والعبادات، وعن النظم والمعاملات.. نتحدث إليكم عن القلب الحي،والروح الحي، والنفس الشاغرة، والوجدان اليقظ، والإيمان العميق بهذه الأركان الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إياها، فهل أنتم مؤمنون؟!" (رسالة: دعوتنا في طور جديد)

إن إيقاظ الإيمان يعني دخولَ نورِه القلبَ، واشتعالَ جذوته فيه؛ لينعكس ذلك على العبادات والمعاملات والاهتمامات، ومهما حاولنا تحسين هذه الأمور دون البدء بإيقاظ الإيمان بمفهومه الصحيح فإن الناتج سيكون ضعيفًا، ولا يتناسب مع الجهد المبذول.

فإن قلت: وكيف نوقظ الإيمان ونشعل جذوته في القلب؟.. جاءك الجواب بأن جيل الصحابة ظهرت على أفراده الآثار الكاملة ليقظة الإيمان، ويكفيك في هذا قول الإمام القرافي: "لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفَوه في إثبات نبوته".

فما علينا إذن إلا أن نبحث عن الوسائل التي استخدموها حتى وصلوا إلى هذا المستوى فنستخدمها، وأظن أن بحثنا لن يطول إذا ما أخذنا هذا الأمر بقوة، وحملناه على محمل الجدّ والاهتمام، ولنعلم جميعًا أنه لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها